اليوم هو عيد النصر لمصر … والعيد القومي لمدينتي الجميلة بورسعيد، التي قضيت فيها أجمل أيام عمري.
لقد عاصرت تأريخ هذا العيد، وأنا طفل في مدينة بورسعيد الباسلة، يوم انتصرت مدينتي على قوات بريطانيا وفرنسا، واضطرتهما للانسحاب، ليدخل الجيش المصري إلى محبوبتي بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1956.
وانطلقت، يومها، مع جموع أهالي بورسعيد لنستقبل طلائع قوات الجيش المصري، عند مدخل المدينة، ونلوح لهم بإشارات النصر، وقررت، حينها، رغم حداثة سني، أن التحق بالكلية الحربية لأصبح رجلاً مثل هؤلاء الأبطال.
وبعد ذلك اليوم، اعتاد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على إحياء ذكرى عيد النصر، بزيارة بورسعيد للاحتفال مع أبنائها؛
فكان يمر بسيارته المكشوفة في شوارع المدينة، ويخرج له الآلاف من أبناء المدينة رافعين أيديهم لتحية هذا البطل، ثم يتوجه بعدها لميدان الشهداء لحضور طابور العرض العسكري.
ولم أكن أدري، حينها، أنه، في يوم من الأيام، وبعد تخرجي في الكلية الحربية، وقبيل سفر كتيبتي إلى اليمن، للمشاركة في حربها، أن قائد كتيبتي سيتلقى إشارة بتخصيص ضابط لحمل علم الكتيبة، أثناء طابور العرض السنوي، في بورسعيد، بمناسبة الاحتفال بعيد النصر، في عام 1963.
ولم أكن أعلم أن الاختيار سيقع عليّ لأكون أنا ذلك الضابط، الذي سيتشرف بحمل علم كتيبته، ضمن مجموعة الأعلام، لأسير في العرض العسكري، أمام الرئيس عبد الناصر، للاحتفال ببسالة مدينتي الحبيبة بورسعيد.
لا أنسى إحساس السعادة والفخر اللذان غمراني، في رحلتي إلى بورسعيد، لكن، هذه المرة، وأنا ضابط مصري، يشارك رسمياً في احتفال عيد النصر.
تحركت بالسيارة الجيب من معسكر فايد، مقر الكتيبة، إلى بورسعيد، وفي الطريق جال بذاكرتي أحداث العدوان الثلاثي الغادر على بلدي بورسعيد، بعدما أمم الرئيس عبد الناصر قناة السويس، ذلك القرار الذي أسعد شعب مصر بأكمله، بأن تكون ملكية وإدارة القناة وطنية خالصة.
وهو ما دفع الأحداث للتصاعد، وانسحب المرشدون الأجانب من العمل في القناة، ليظهروا للعالم عدم قدرة مصر على إدارة القناة، إلا أن مرشدين مصر المخلصين فوتوا عليهم الفرصة، بنجاحهم في إدارة القناة.
وحينها قرر البريطانيون والفرنسيون الهجوم على بورسعيد، لاحتلال القناة، بعدما اتفقا مع إسرائيل على الهجوم على سيناء، قبلها، لتبرير هجومهما الغاشم على بورسعيد، بحماية قناة السويس.
بينما، في الحقيقة، كانت بريطانيا تستهدف، من ذلك الهجوم، السيطرة، مرة أخرى، على المناطق المحيطة بالقناة، تلك السيطرة التي فقدتها بعد توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954.
أما فرنسا فكان هدفها، الأساسي، من العدوان على مصر، الانتقام من عبد الناصر، بسبب مساندته لثورة الجزائر، مع أهمية استعادة إدارة القناة، بما تمثله من شريان ملاحي عالمي.
وبناء على معاهدة سيفر، قامت إسرائيل، ليلة 29 أكتوبر 1956، بمهاجمة سيناء، وهبطت مظلاتها في عمق سيناء، فاشتبكت معها القوات المصرية.
وعلى الفور، وتنفيذاً للخطة، أصدرت فرنسا وإنجلترا، يوم 30 أكتوبر 1956، إنذارا لمصر وإسرائيل لوقف القتال، وطلبت من الجانبين الانسحاب لمسافة عشرة كيلو مترات من القناة، لما يمثله قتالهما من تهديد للملاحة في قناة السويس، فرفضت مصر ذلك الإنذار، وما يمثله من تدخل في شأنها الداخلي.
فاستيقظنا في الصباح الباكر، من اليوم التالي، 31 أكتوبر، على هجوم إنجلترا وفرنسا، على مدينة بورسعيد!
ورغم صغر سني، حينها، إلا أنني أتذكر، بدقة، تفاصيل ذلك اليوم، الذي بدأ بالقصف الجوي من القوات الفرنسية والإنجليزية على مدينة الجميل، بالتزامن مع الهجوم البحري، بواسطة الأسطول البريطاني.
فهرولت إلى نافذة المنزل، ورأيت هبوط المظليين البريطانيين في مطار الجميل، فتوجه والدي، رحمة الله عليه، إلى الراديو، وتحديداً، لإذاعة BBC، فسمعنا الإنذارات، الموجهة من خلالها، إلى أهالي بورسعيد لإخلاء مساكنهم القريبة من البحر، واللجوء إلى المخابئ، نظراً لبدء الهجوم البحري من جهة سواحل بورسعيد.
ودون اتفاق مسبق، وبغريزة حب البلاد، نظم أهالي مدينة بورسعيد أنفسهم فيما عرف باسم “المقاومة الشعبية”، واشتبكوا مع القوات المسلحة المعتدية، في معارك بطولية، لصد العدوان الغاشم على مدينتهم.
وفي يوم 2 نوفمبر، من نفس العام، صدر قرار الأمم المتحدة بوقف القتال، وأتبعه الإنذار السوفيتي، يوم 3 نوفمبر، لكل من فرنسا وبريطانيا، مما دفعهما للانصياع بوقف إطلاق النار.
أتذكر يوم بدأ العدوان، أنني رافقت والدي للاطمئنان على جدتي، في شارع الثلاثيني، وفي طريقنا إليها، رأينا العشرات من شهداء بلدي، من رجال المقاومة الشعبية، على كل ناصية شارع، ودمائهم تنزف، وسلاحهم، البسيط، لازال في أيديهم.
ولما مررنا بميدان المحافظة، كانت كل المنازل محروقة، والدخان يتصاعد منها، بعدما قذفتها القوات المعتدية بالنابالم.
ورغم حصار القوات البريطانية والفرنسية للمدينة، إلا أن المقاومة الشعبية كانت لهم بالمرصاد، بعملياتها الناجحة، والتي كان منها اختطاف مورهاوس، الضابط البريطاني، وابن عم الملكة، وقتل ضابط المخابرات البريطاني المسئول عن بورسعيد.
وهكذا استمرت المقاومة حتى يوم 23 ديسمبر 1956، تاريخ انسحاب القوات الغازية من بورسعيد، ويوم قررت أن ألتحق بالكلية الحربية لأصبح ضابطاً، يدافع دوماً عن بلاده.
كل تلك الأحداث، وغيرها، طافت بذهني، وأنا أدخل مدينتي الحبيبة بورسعيد، من نفس طريق دخول القوات المصرية يوم 23 ديسمبر 1956 … أدخلها وأنا ضابطاً، حاملاً علم بلادي للاحتفال بعيد النصر، وبسالة بورسعيد … ورددت كلمات البورسعيدية … يجعلك عمار يا بورسعيد.